سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ...} [البَقَرَة: 67] وإنما أخَّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين؛ على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم، وعلى قتل النفس، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكروا {إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} حرصاً على الدنيا {فَادَّارَأْتُمْ} أي: تدافعتم في شأنها، كل قرية تدفع عنها، {والله} تعالى {مُخْرِجٌ} ومبين {مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} من القتل، ومن قتله، {فَقُلْنَا}: اضربوا القتيل أو قبره {بِبَعْضِهَا} قيل: اللسان، وقيل القلب، وقيل: الفخد أو الذنب، فضربوه فحيى، وأخبر بقاتله كما تقدم، {كَذَلِكَ} أي: كما أحيا هذا القتيل، {يُحْيِي الله الموتى} من قبورها {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الدالّة على قدرته، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحد يقدر على إحياء الأنفس كلها.
واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء، وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلاناً قتله، وفيه نظر؛ لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب، واستدلت أيضاً على حرمان القتل من الإرث، وفيه نظر؛ لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ، لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ على صدقه وفلاحه ونجح نهايته، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة، فلا موت بعدها أبداً، قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدّخَان: 56]، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع، وأنشدوا:
لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ *** لَحَيَاةٌ وَهْو غايةُ المنَى
لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما *** هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا
فاخْلَعُوا الأجْسَادَ مشنْ نفُسِكُم *** تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا
قلت: والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه، وخرق عوائد نفسه، وزهد في الدنيا، ماتت نفسه في طرفة عين، وحيِيَتْ روحه، وظفر بِقُرَّةِ العين، وهي معرفة مولاه، والغيبة عما سواه.
وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولت عيله أنوار الروحانية، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب، كما في الحديث: «أولياُ اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله»، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها، مسلمة لا عيب فيها، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها، فحينئذٍ تصلح للحضرة، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع، بل أقر الخصم وارتفع النزاع.


قلت: القسوة والقساوة: هي الصلابة واليبوسة، كالشقوة والشقاوة، يقال حجر قاس، أي: يابس. قال الشاعر:
وَلاَ أرَى أثراً لِلذِّكرِ في جَسدِي *** والحَبلُ في الجَبَل القاسِي لهُ أثرُ
و{أو} للإضراب، أو بمعنى الواو، أو للتنويع، فبعضها كالحجارة وبعضها أشد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} يا معشر اليهود، ويبست فلم تلن ولم تخضع، مع ما رأت من الآيات كانفجار الحجر بالماء في التيه، وإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام، وإحياء الميت وغير ذلك.
قال الكلبي: (أنكروا بعد ما رأوا ذلك، وقالوا: ما قتلنا، فما كانوا قد أعمى قلباً، ولا أشد تكذيباً منهم لنبيهم عند ذلك) فقلوبهم كالحجارة، بل أشد، أو إن شَبَّهْتم قلوبهم بالحجارة أصبتم، وبما هو أشد أصبتم، بل في الحجارة فضل عليها في اللين، فإن منها ما تتفجر {مِنْهُ الأنْهَارُ} الكبار، ومنها ما تشقق {فَيَخْرُجُ مِنْهُ} العيون الجارية، ومنها ما تهبط من رأس الجبل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. وفي بعض الأخبار: «كل حجر تَرَدَّى من رَأسِ جبلٍ فهو من خشية الله»، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير، نسأل الله السلامة بمنَّه وكرمه.
الإشارة: كل مَن أساء الأدب مع أستاذه، أو خرج عن دائرته إلى غيره، قسا قلبه، وذهب حاله ولُبه، فإن رجع قريباً واستدرك ما فات، لان قلبه ونهض حاله، وإلا وقع في مهاوي القطيعة، ولم يأت منه شيء، وللقلب القاسي علامات: منها جمود العين، وطول الأمل، وعدم الحزن على ما فاته من الطاعات وما صدر منه من السيئات، وعدم الفرح بما يصدر منه من الطاعات، فإن المؤمن تسره حسناته وتسيئه سيئاته، ودواؤه: صحبة الفقراء الذاكرين الخاشعين، والجلوس بين يدي العارفين الكاملين، وتعاهد الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام، والتضرّع إلى الحيّ القيوم الذي لا ينام، وللشافعي رضي الله الله عنه:
ولَمَا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَذَاهِبي *** جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعَفْوِك سُلَّمَا
تَعَاظَمنِي ذَنْبي فَلمَّا قَرَنْتُه *** بعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البَقَرَة: 74] كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها، والرجوع عن مألوفاتها، تتفجر منها أنهار العلوم، وتشقق منها أسرار الحِكَم، ومنها من تذوب من هيبة المتجلي لها، فتندك جبالها، وتزلزل أرض نفوسها، كما قال القائل:
لَو عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ *** أَرضْ النفُوس ودُكَّتِ الأجْبَالُ
لَرأَيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورُها *** حِينَ التزَلْزلِ والرجَالُ رجالُ
والله تعالى أعلم.


قلت: ضمن الإيمان معنى الإذعان والإقرار؛ ولذلك عداه باللام، وجملة {قد كان} حال من فاعل الإيمان، و{إذا لقوا} عطف على {كان}، والتقدير: أفتطمعون في إيمانهم والحالة أن مَن سلف منهم كانوا يُحرفون كلام الله، ومن حضر منهم الآن ينافقونكم في دين الله، فلا مطمع في إيمان مَنْ هذا وصفه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أَفَتَطْمَعُونَ} يا معشر المسلمين أن يذعن لكم أهل الكتاب ويصدقوكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، وهم السبعون الذين ذهبوا مع موسى للاعتذار، {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ} حين كلّمهم وكلّفهم بمشاق التوراة، فحرفوا وقالوا: قال: افعلوا ما استطعتم، فإذا لم يحصل لهم الإيمان مع سماع الكلام بلا واسطة، فكيف يؤمن لكم هؤلاء، وهم إنما يسمعونه بواسطة الرسالة؟ أو {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ} في التوراة ثم يحرفونه، محواً أو تأويلاً، كصفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، {مِنْ بعْدِ} ما فهموه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه كلام الله، أو {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم محرفون ومغيرون لكلام الله.
وكيف تطمعون أيضاً في إيمانهم وهم منافقون؟ {إذَا لَقُوا} المؤمنين {قَالُوا آمنَّا}، وصفة نبيكم مذكورة في كتابنا، {وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ} لامهم مَن لم ينافق، و{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ} من علم التوراة فتطلعونهم عليه {ليُحَاجُّوكُم بِهِ} أي: يغلبوكم بالحجة {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الدنيا والآخرة، فيقولون: كنتم عالمين بنبوة نبينا فجحدتم وعاندتم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} حتى تطلعوهم على ما فتح الله به عليكم. أو يقول الحق تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يا معشر المسلمين فتطمعون في إيمانهم بعد هذه الخصال التي فيهم، قال الحقّ جلّ جلاله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ} لا يخفى عيله شيء، بل {يَعْلَمُ} ما يسرونه وما يعلنونه، فيجازيهم على ما أخفوا وما أعلنوا.
الإشارة: مَن سبقت له المشيئة بالخذلان، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان، يرجع إلى الدليل والبرهان، بعد الاستشراف على الشهود والعيان، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم، سبب ذلك كلَّه: الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب، أو مفارقة الإخوان، وعدم مواصلة أهل العرفان، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله، فلا مطمع في رجوعه وإيابه، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه، لا سيما إذا اتصف بالنفاق، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح، ولا يَسعد بصلاح ونجاح. نعوذ بالله من ذلك.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16